غاية الأماني في أحكام وآداب التهاني
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فتمر بحياة الإنسان مناسبات وأعياد شرعية شرع فيها تهنئة المسلمين بعضهم بعضًا ، ومناسبات وأحوال أخرى شخصية تعارف الناس على التهنئة فيها ببعض الكلمات ؛ وهناك مناسبات مبتدعة اعتاد البعض على التهنئة بها ، وهو غير جائز .
والتهنئة والتبريك من آداب الإسلام وخصاله الجميلة ، وقد وردت الأحاديث والآثار في التهنئة والتبريكات في أحوال ومناسبات سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .
والتهنئة كان أمرًا معروفًا عند الصحابة ، ورخص فيه أهل العلم ، وقد ورد ما يدل على مشروعيه التهنئة في بعض المناسبات ، وتهنئة الصحابة بعضهم بعضًا فيما إذا حصل لهم أمر يَسُرُّ ، كما هنأوا من تاب الله عليهم ... إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه .
فالتَّهْنِئَةُ مَشروعةٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ وفيهَا مُشَارَكَةٌ بِالتَّبْرِيكِ وَالدُّعَاءِ مِنِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ فِيمَا يَسُرُّهُ وَيُفْرحُهُ ؛ مما يدعو إلى التَّوَادِّ ، وَالتَّرَاحُمِ ، وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَهْنِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ نَعِيمٍ في الجنة ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى :
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
[ الطور : 19 ] .
والأصل في التهنئة تجدد نعمة ، أو رفع بلاء ؛ مما يُدخل السرور على النفوس ؛ فهي مما يُفرح المُهنَأ ، ويدل على سجية المهنِّئ ، وقد تدخل في التبشير ، إلا أن البُشارة إنما تكون من أول من يخبر بها ، والتهنئة لا يشترط فيها الأولية .
ولهذا جاء في حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
؛ قال : وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ
بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ ، فَذَهَبَ
النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا ، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ ،
وَرَكَّضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا ، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى
عَلَى الْجَبَلِ ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ ، فَلَمَّا
جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ ،
فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ ؛ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ
غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ ، فَلَبِسْتُهُمَا
وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
، فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ ،
يَقُولُونَ : لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ ؛ قَالَ كَعْبٌ :
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ
جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي ، وَاللَّهِ مَا قَامَ
إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ ، وَلَا أَنْسَاهَا
لِطَلْحَةَ ؛ قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ : " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ " ( [1] ) .
فهذا الحديث أصل في التهنئة لما يطرأ على المسلم من نعمة ، أو يرفع عنه من بلاء .
وللحافظ السيوطي -
- رسالة لطيفة سماها ( وصول الأماني بأصول التهاني ) جمع فيها ما جاء في
التهاني المشروعة ؛ وتكلم العلماء عن حكم ما يتجدد من التهاني بين المشروع
والممنوع .
وفي هذه الرسالة أحاول – مستعينًا بالله تعالى – أن أجمع شتات هذا الموضوع المهم من خلال المحاور الآتية :
معنى التهنئة .
ألفاظ تستخدم في التهنئة .
حكم التهنئة .
أنواع التهنئة .
التهنئة المشروعة .
التهنئة الممنوعة .
آداب التهنئة ؛ ثم الخاتمة .
هذا والله الكريم أسأل العون والقبول ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
ألفاظ تستخدم في التهنئة
هناك ألفاظ تستخدم للتهنئة بأمورٍ معينة ، كَالتَّبْرِيكِ ، وَالتَّبْشِيرِ ، وَالتَّرْفِئَةِ .
والتبريك من الْبَرَكَةَ ، وَهو الدُّعَاءَ لِلإِْنْسَانِ بِالْبَرَكَةِ ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَادَةُ ( [1] ) .
قال الراغب –
: والبركة : ثبوت الخير الإلهي في الشيء ؛ قال تعالى :
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
[ الأعراف : 96 ] ، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البِرْكة ؛
ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس ، وعلى وجه لا يُحصى ولا يُحصر ،
قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة : هو مبارك ، وفيه بركة ؛ وإلى
هذه الزيادة أشير بما روي أَنَّهُ " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ " ( [2] ) .
وأما التَّبْشِيرُ : فَمَصْدَرُ بَشَّرَ ، وَالاِسْمُ : الْبِشَارَةُ ، وَالْبُشَارَةُ ( بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ ) ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً : الإِْخْبَارُ بِالْخَيْرِ عند الإطلاق ؛ وهي - أَيْضًا : مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشَّرُ بِالأَْمْرِ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الإِْخْبَارِ بِالشَّرِّ إِذَا قُيِّدَ بِهِ ، كَما في قَوْلِهِ تَعَالَى :
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
[ التوبة : 34 ] ( [3] ) ؛ والْبِشَارَةَ : أَوَّل مَا يَصِل إِلَيْك مِنَ الْخَبَرِ السَّارِّ ( [4] ) ،
فَإِذَا وَصَل إِلَيْك ثَانِيًا لَمْ يُسَمَّ بِشَارَةً ؛ وَوُجُودُ
الْمُبَشَّرِ بِهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ لَيْسَ بِلاَزِمٍ ؛ بِدَلِيل
قَوْلهِ تَعَالَى :
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقِ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
[ الصافات : 112 ] .
وأما التَّرْفِئَةُ : فمَصْدَرُ رَفَأَ ، يُقَال : رَفَّاهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيًا ، وَرَفَّأَهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيئًا ، أَيْ : دَعَا لَهُ وَقَال : بِالرِّفَاءِ ، أَيْ : بِالاِلْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْل ؛ لأَِنَّ أَصْل الرَّفْءِ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَؤُمُ ، وَمِنْهُ رَفَأَ ، أَيْ : تَزَوَّجَ ( [5] ) . وَعَلَى هَذَا تَكُونُ التَّرْفِئَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّهْنِئَةِ ؛ لأَِنَّ التَّرْفِئَةَ هِيَ التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ خَاصَّةً ، أَمَّا التَّهْنِئَةُ فَتَكُونُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِغَيْرِهِ . وكان أهل الجاهلية يقولون لمن تزوج : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، فنهى النبي
عن هذه الترفئة ، لأنها من تهنئة الجاهلية ، وهم كانوا يكرهون الإناث . وسيأتي بيان ذلك ، إن شاء الله تعالى .
[1] - انظر ( لسان العرب ) باب الكاف فصل الباء ، والمصباح المنير مادة ( ب ر ك ) .
[2] - انظر ( المفردات في غريب القرآن ) مادة ( ب ر ك ) ؛ والحديث رواه مسلم ( 2588 ) عن أبي هريرة t .
[3] - انظر ( لسان العرب ) باب الراء فصل الباء ، والمصباح المنير مادة ( ب ش ر ) .
[4] - انظر ( الفروق اللغوية ) ص 101 ( 399 ) .
[5] - انظر ( لسان العرب ) باب الهمزة فصل الراء ، والمصباح المنير مادة ( ر ف أ ) .
حكم التهنئة
قد جاءت الأدلة على استحباب التهنئة في أحوال ، كالتهنئة بالمناقب العلية ، والتهنئة بالعلم ، والتهنئة بالزواج ... وغير ذلك ؛ واعتاد الناس على بعض التهاني بما يُسَرُّ به المسلم مما يطرأ عليه من الأمور المباحة من تجدد نعمة ، أو دفع مضرة ؛ وهذا من الأمور المباحة ؛ ولها أصل في تهنئة الصحابة لكعب بن مالك وصاحبيه
كما تقدم ؛ ثم إن التهنئة - غالبًا - من باب العادات ، والأصل فيها الإباحة ، ولا يحرم منها إلا ما ورد تحريمه ؛ قال السعدي -
:
والأصل في عاداتنا الإباحة ... حتى يجيء صـارف الإباحة
وليس مشروعًا من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور ([1] )
وهناك بعض التهاني قد اعتاد عليها بعض الناس ، ولكنها مما لا يجوز في شرع الله المطهر ، كالتهنئة بأعياد كفرية كعيد الكريسماس وما شابهه ، أو بأعياد مبتدعة كعيد الميلاد ، وعيد الأم ، وعيد الحب ... وما شابه ذلك .
[1] - المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي : 1 / 143.
أنواع التهاني
بعد بيان الحكم المتعلق بالتهنئة يتبين لنا أن التهنئة نوعان :
الأول : تهنئة مشروعة ؛ وهي ما جاء الدليل عليها ، أو ما لها أصل يمكن القياس عليه .
الثاني : تهنئة ممنوعة ؛ وهي ما لا دليل عليها ، وليس لها أصل يمكن القياس عليه .
إذ التهنئة تكون على أحوال :
إمَّا أن تكون بما يُسَرُّ به المسلم ، مما يطرأ عليه من الأمور المباحة ، من تجدد نعمة ، أو دفع مضرة ؛ كالتهنئة بالنكاح ، والتهنئة بالمولود الجديد ، والتهنئة بالثوب الجديد ، والتهنئة بالنجاح في عمل أو دراسة ، أو ما شابه ذلك من المناسبات التي لا ارتباط لها بزمن معين ؛ فهذه من أمور العادات التي لا حرج فيها ، ولعل صاحبها يُؤْجَرُ عليها لإدخاله السرور على أخيه المسلم ؛ فالْمُبَاحُ بِالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ يَكُونُ خَيْرًا ، وَبِالنِّيَّةِ السَّيِّئَةِ يَكُونُ شَرًّا .
وإمَّا أن تكون التهنئة متعلقة بزمن معين ؛ كالأعياد ، والأعوام ، والأشهر ، والأيام ؛ وهذه فيها تفصيل :
أمَّا عيد الفطر وعيد الأضحى ؛ فعيدان شرعيان ، والتهنئة بهما ثابت عن جَمْعٍ من الصحابة .
وأمَّا التهنئة بالعام الهجري الجديد ؛ فلم يكن معروفًا عند السلف ، واختلف فيها ، وسيأتي بيانها .
وأمَّا التهنئة بالأشهر ؛ فكالتهنئة بشهر رمضان ، فهذا له أصل في السنة .
وأمَّا الأيام ؛ فكالتهنئة بيوم ميلاد النبي
، أو بيوم الإسراء والمعراج ، وما شابه ذلك ، فهذا من البدع ، لارتباطه بمناسبات دينية مبتدعة .
وأما ما اخترعه الناس من احتفالات سموها أعيادًا أو أيامًا ، كعيد الميلاد ، وعيد الزواج ، وعيد الحب ، وما شابهه ؛ فهذه كلها وما شابهها أعياد باطلة لا يجوز الاحتفال بها ، ولا التهنئة عليها .
التهاني المشروعة
التَّهْنِئَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِكُل مَا يُسِرُّ وَيُسْعِدُ مِمَّا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتقدم ذكر بعض ذلك ، ونضيف ها هنا بعضها ، كالتَّهْنِئَةِ برمضان ، والتهنئةِ بِالْعِيدِ ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ ، والتهنئة بالعافية من المرض ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالطَّعَامِ ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ ؛ وفي التهنئةِ بالأيام والأعوام والشهور - غير رمضان - كلام لأهل العلم سنذكره إن شاء الله تعالى .
التهنئة بالمناقب الدينية والفضائل العلية
روى أحمد والشيخان عَنْ أَنَسٍ
قَالَ : نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ
:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، قَالَ النَّبِيُّ
: " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ " ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ
، فَقَالُوا : هَنِيئًا مَرِيئًا يَا نَّبِيَّ اللهِ ؛ بَيَّنَ اللهُ عو
وجل مَا يُفْعَلُ بِكَ ، فَمَاذَا يُفْعَلُ بِنَا ؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ :
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
حَتَّى بَلَغَ :
فَوْزًا عَظِيمًا
وعن عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر -
- قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه
: " هَنِيئًا لَك ، أَبُوك يَطِير مَعَ الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء " [ 2 ]
[1] .
[1] - أحمد : 3 / 122 ، 134 ، 197 ، واللفظ له ، والبخاري ( 3939 ، 4554 ) ، ومسلم ( 1786 ) .
[2] - قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 9 / 230 ) : رواه الطبراني وإسناده حسن .ا.هـ . وحسن إسناده الحافظ المنذري في ( الترغيب والترهيب ) : 2 / 206 ، وكذا الحافظ في ( فتح الباري ) : 7 / 76 .
التهنئة بالتوبة
تقدم حديث كعب بن مالك
، وفيه : فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي
بِالتَّوْبَةِ ، يَقُولُونَ : لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ .
التهنئة بالعلم
روى أحمد ومسلم عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ
أَنَّ النَّبِيَّ
سَأَلَهُ : " أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ " قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! فَرَدَّدَهَا مِرَارًا ، ثُمَّ قَالَ أُبَيٌّ : آيَةُ الْكُرْسِيِّ ؛ قَالَ : " لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ " ( [1] ) .
فمن نال رتبة علمية يُهنأ ، ويقال له : لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ .
التهنئة بالطعام والشراب
اعتاد الناس أن يقول بعضهم لبعض بعد طعام أو شراب : هنيئًا مريئًا ؛ وفي القرآن العظيم أنه يقال لأهل الجنة :
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
[ الطور : 19 ، والمرسلات : 43 ] ؛ وقال الله تعالى فيما أعطت المرأة زوجها عن طيب نفس :
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
[ النساء : 4 ] . والهنيء : الذي لا ينغصه شيء ، والمريء : المحمود العاقبة الذي لا داء فيه .
التهنئة بالثوب الجديد
روى أحمد وابن ماجة واللفظ له عَنْ ابْنِ عُمَرَ -
- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ ، فَقَالَ : " ثَوْبُكَ هَذَا غَسِيلٌ أَمْ جَدِيدٌ ؟ " ، قَالَ : لَا بَلْ غَسِيلٌ ، قَالَ : " الْبَسْ جَدِيدًا ، وَعِشْ حَمِيدًا ، وَمُتْ شَهِيدًا " ( [1] ) ؛ وقوله
: " الْبَسْ جَدِيدًا " صيغة أمر أريد به الدعاء بأن يرزقه الله الجديد .
وفي صحيح البخاري عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ -
- قالت : أُتِيَ النَّبِيُّ
بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ، فَقَالَ : " مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ ؟ " فَسَكَتَ الْقَوْمُ ، قَالَ : " ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ " فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا ، وَقَالَ : " أَبْلِي وَأَخْلِقِي " ( [2] ) ؛ وروى ابن أبي شيبة عن أبي نضرة قال : كان أصحاب النبي
إذا رأوا على أحدهم الثوب الجديد ، قالوا : تُبلي ، ويُخلف الله عليك ( [3] ) .
قال الحافظ –
: وقوله " أَبْلِي " : أمر بالابلاء ، وكذا قوله : " وَأَخْلِقِي
" : أمر بالإخلاق ، وهما بمعنى ؛ والعرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول
البقاء للمخاطب بذلك ؛ أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق ؛ قال
الخليل : أبلِ وأخلق ، معناه : عش وخرِّق ثيابك وأرقعها ، وأخلقت الثوب :
أخرجت باليه ولفقته ( [4] ) .ا.هـ .
وفي الحديث أنه يستحب أن يقال لمن لبس ثوبًا جديدًا : أبلِ ( أبلي ) وأَخْلِقْ ( وأخلقي ) .
[1] - أحمد : 2 / 88 ، وابن ماجة ( 3558 ) وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة ، والألباني في صحيح ابن ماجة .
[2] - البخاري ( 2906 ، 3661 ، 5485 ، 5507 ، 5647 ) .
[3] - ابن أبي شيبة ( 29758 ) .
[4] - انظر ( فتح الباري ) : 10 / 280 .
التهنئة بالعافية من المرض
روى أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن مسلم بن يسار قال : كان أحدهم إذا برئ ، قيل : ليهنك الطهر ( [1] ) .
وقال أبو الطيب المتنبي يهنئ سيف الدولة بالعافية من المرض :
وما أخصُّك في برءٍ بتهنئةٍ ... إذا سَلِمْتَ فكلُّ النَّاسِ قد سَلِمُوا
يقول : لا أخصك بهذه التهنئة على برئك من المرض ، بل أهنئ جميع الناس ، فإنهم كانوا مرضى لمرضك ، فإذا سلِمتَ منه سلِم جميع الناس ، فاستووا معك في استحقاق التهنئة .
[1] - حلية الأولياء : 2 / 294 ؛ وهو في ( الزهد ) للإمام أحمد ص 252 ، من زوائد ابنه عبد الله .التهنئة بالقدوم من الحج
روى البيهقي في ( السنن الكبرى ) من طريق الشافعي ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِىِّ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ : حَجَّ آدَمُ
، فَلَقِيَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ فَقَالُوا : ( بُرَّ نُسُكُكَ آدَمُ ) ( [1] ) .
وفي مصنف ابن أبي شيبة أن ابن عمر -
- كان يقول للحاج إذا قدم : تقبل الله نسكك ، وأعظم أجرك ، وأخلف نفقتك ( [2] ) .
[1] - السنن الكبرى للبيهقي ( 9617 ) - مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 هـ - 1994 م ؛ ورواه الأزرقي في ( أخبار مكة ) عن محمد بن المنكدر .
[2] - ابن أبي شيبة (15814 ) .
التهنئة بالنصر
في سنن أبى داود عن عَائِشَةَ -
- قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ ، وَكُنْتُ أَتَحَيَّنُ قُفُولَهُ ، فَأَخَذْتُ
نَمَطًا كَانَ لَنَا فَسَتَرْتُهُ عَلَى الْعَرَضِ ، فَلَمَّا جَاءَ
اسْتَقْبَلْتُهُ ، فَقُلْتُ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَبَرَكَاتُهُ ؛ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّكَ
وَأَكْرَمَكَ ... الحديث ، ورواه النسائي في ( الكبرى ) وعنده : ( الَّذِي
أَعَزَّكَ ، ونَصَرَكَ ، وَأَكْرَمَكَ ) ( [1] ) .
وفي المستدرك عن عروة قال : لما قفل رسول الله
وأصحابه من بدر ، استقبلهم المسلمون بالروحاء يهنئونهم ( [2] ) .
وفي ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد : لقي أسيد بن الحضير
رسول الله
حين أقبل من بدر ، فقال : الحمد لله ، الذي أظفرك ، وأقر عينك ( [3] ) .
[1] - أبو داود ( 4153 ) ، وصححه الألباني ، والنسائي في الكبرى ( 10392 ) .
[2] - جزء من حديث رواه الحاكم ( 5767 ) وقال مرسل صحيح ، ووافقه الذهبي .
[3] - ابن سعد : 3 / 605 . التهنئة بالقدوم من سفر
التَّهْنِئَةُ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ تَكُونُ بِنَحْوِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَك ، أَوِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ الشَّمْل بِكَ ، أو حمدًا لله على سلامتك ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الاِسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ الْمسافر .
وَيُهَنَّأُ الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ كَانَ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى ، بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْعِزِّ وَإِقْرَارِ الْعَيْنِ ، وَتقدم حديث عَائِشَةَ وأسيد بن حضير وعروة
.
وتقدم - أيضًا - ما يقال لمن قدم من الحج ، ومثله لمن قدم من العمرة . التهنئة بالزواج
الزواج من المناسبات المفرحة ، والتي اعتاد الناس أن يهنأوا فيها العروسين ، وقد ثبت هذا الأدب الرفيع من سنة النبي
، ومن فعل أصحابه رضوان الله تعالى عنهم ؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : بُنِيَ عَلَى النَّبِيِّ
بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ ، فَأُرْسِلْتُ عَلَى
الطَّعَامِ دَاعِيًا ، فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ،
ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا
أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو ، فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا أَجِدُ
أَحَدًا أَدْعُوهُ ، قَالَ : " ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ " ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ
فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ ، فَقَالَ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
" ، فَقَالَتْ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، كَيْفَ
وَجَدْتَ أَهْلَكَ ؟ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ ؛ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ
كُلِّهِنَّ ، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ ، وَيَقُلْنَ لَهُ
كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ( [1] ) .
والشاهد من الحديث قول أزواج النبي
له بعد زواجه : ( بَارَكَ اللَّهُ لَكَ ) .
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : كان رسول الله
إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال : " بَارَكَ اللهُ لَكَ ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ " ( [2] ) ؛
ورفأه ، أي : هنأه ودعا له ، وأصل الرفاء الالتئام والاجتماع ، مِنْ
رَفَأْت الثَّوْب وَرَفَوْته رَفْوًا وَرِفَاء ؛ وَهُوَ دُعَاء لِلزَّوْجِ
بِالِالْتِئَامِ وَالِائْتِلَاف ؛ وفيه استحباب الدعاء للمتزوج .
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : رَأَى النَّبِيُّ
عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثَرَ صُفْرَةٍ ، فَقَالَ : " مَهْيَمْ ؟ " أَوْ " مَهْ ؟ " قَالَ : تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : " بَارَكَ اللَّهُ لَكَ ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ " ( [3] ) ؛ وقوله : " مَهْيَمْ ؟ " أي : ما أمرك ، وما شأنك ، وما هذا الذي أرى بك ( [4] ) .
وفي مسند أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ : تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخَرَجَ عَلَيْنَا ، فَقُلْنَا : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، فَقَالَ : مَهْ ! لَا تَقُولُوا ذَلِكَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ
قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ؛ وَقَالَ : " قُولُوا : بَارَكَ اللَّهُ لَهَا فِيكَ ، وَبَارَكَ لَكَ فِيهَا
" ؛ ورواه أحمد وابن ماجة والنسائي عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَقِيلِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمَ ، فَقَالُوا :
بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ ؛ فَقَالَ : لَا تَقُولُوا هَكَذَا ، وَلَكِنْ
قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ ، وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ " ( [5] ) .
وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ
، فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ
الأَنْصَارِ فِي البَيْتِ ، فَقُلْنَ : عَلَى الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ ،
وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ ( [6] ) . أي : على أفضل حظ ونصيب ، وطائر الإنسان : نصيبه .
فبأي من هذه التهاني هنأ المسلم من تزوج ؛ ولا يقول له : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، لأنها ترفئة أهل الجاهلية - كما تقدم - وهم كانوا يكرهون البنات .
وَالتَّهْنِئَةِ ثَابِتة فِي حَقِّ مَنْ حَضَرَ النِّكَاحَ ، وَتَكُونُ عَقِبَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالدُّخُول ، وَيَطُول وَقْتُهَا بِطُول الزَّمَنِ عُرْفًا ، وَذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ الْعَقْدَ أَوِ الدُّخُول ؛ أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فَتُسْتَحَبُّ لَهُ التَّهْنِئَةُ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ .
[1] - البخاري ( 4515 ) ، وتقرى : تتبعها واحدة ، واحدة .
[2] - أحمد : 2 / 381 ، 451 ، وأبو داود ( 2130 ) ، والترمذي ( 1091 ) ، وقال : حسن صحيح ، والنسائي في اليوم والليلة ( 260 ) ، وابن ماجة ( 1905 ) .
[3] - البُخَارِي في مواطن منها ( 2049 ، 3937 ، 5072 ، 5148 ، 6082 ) ، ومسلم ( 3475 ، 3476 ) .
[4] - انظر ( شرح السنة ) للإمام البغوى : 9 / 134 .
[5] - أحمد : 1 / 201 ؛ 3 / 451 ، والنسائي ( 3371 ) ، وابن ماجة ( 1906 ) ، وصححه الألباني .
[6] - البخاري ( 3681 ، 4861 ) واللفظ له ، ومسلم ( 1422 ) .
قال ابن القيم -
- في حديث توبة كعب
:
وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية ، والقيام إليه إذا
أقبل ، ومصافحته ؛ فهذه سنة مستحبة ، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية ،
وأن الأولى أن يقال له : ليهنك ما أعطاك الله ، وما منَّ الله به عليك ،
ونحو هذا الكلام ؛ فإن فيه تولية النعمة ربها ، والدعاء لمن نالها بالتهني
بها ( [1] ) .
فلا بأس أن يُهنأ المسلم بكل ما يسُر ؛ لأن هذا ورد أصله في السنة ، بتهنئة الصحابة بتوبة الله على كعب بن مالك ؛ ولا ريب أن تهنئه المسلم بما تجدد له من نعمة ، أو اندفع عنه من مضرة ؛ يزرع المودة والمحبة بين المسلمين , ويزيل البغضاء والشحناء بينهم .
[1] - انظر ( زاد المعاد ) : 3 / 511 .
تعارف الناس على بعض التهاني عند بعض الأعمال ، ليس لها في السنة أصل ، ولكن إذا عُلِم أن التهنئة من أمور العادات ، وأن الأصل فيها الإباحة ، ما لم يكن فيه مخالفة شرعية ، فهذه التهاني تكون مباحة ؛ فالأصل في التهنئة بكل ما يسر لا بأس بها ، ولها أصل في السنة بتهنئة كعب ابن مالك ، كما تقدم .
فالتهنئة بما يتجدد للمسلم من نعمة أو حال حسنة لا بأس بها ، على أن تكون بكلمات طيبات ، ليس فيها مبالغة ؛ وقد تكون التهنئة بكتابة ، أو برسالة عبر الهاتف ، أو ببرقية ، أو بفاكس ؛ فهذه كلها تدخل في وسائل التهنئة .
فلو نجح إنسان فهنأه صاحبه بأن قال - مثلا : مبارك عليك هذا النجاح ، أو جعله الله لك عونًا على طاعته ، أو جعل الله هذه الدرجة لخدمة دينه .. ونحو ذلك , هذه كلها لا بأس بها ، وتدخل في عموم التهنئة .
فالتهنئة في الأصل مشروعة ، وما ثبت منها يلتزمه المسلم ويواظب عليه ؛ مثل التهنئة بالنكاح وبالثوب الجديد ، فهي ثابتة بألفاظ معينة ؛ وأما إذا لم يثبت فيه شيء ، فالأمر فيه سعة ، ويهنئ الإنسان بما شاء من الألفاظ الطيبات ، ما دام أنه لا يعتقد أنها سنة ، ولا يواظب عليها مواظبته على الأذكار الشرعية .
التهنئة لمن خرج من الحمام
اعتاد بعض الناس أن يقول لمن اغتسل : نعيمًا ، يعني : أدام الله عليك النعيم ؛ قال النووي -
: قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ : وَأَمَّا التَّحِيَّةُ عِنْدَ
خُرُوجِهِ من الحمام بقوله : طاب حمامك ، فنحوه ؛ فَلَا أَصْلَ لَهَا .
وَهُوَ كَمَا قَالُوا ؛ فَلَمْ يصح فيه شيء ؛ لَكِنْ لَوْ قَالَ
لِصَاحِبِهِ حِفْظًا لِوُدِّهِ : أَدَامَ اللَّهُ لَك النَّعِيمَ ..
وَنَحْوَهُ مِنْ الدُّعَاءِ ، فَلَا بَأْسَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( [1] ) . ويُجيب الخارجُ من الحمام بنحو : أنعم الله عليك من نعمهِ .
[1] - انظر ( المجموع ) : 4 / 616 – دار الفكر ، ونحوه في ( الأذكار ) ص 431 – دار ابن حزم ؛ والمقصود بالحمام : هو محل فيه ماء حار ، كان الناس يذهبون إليه للاغتسال ، أو الاستشفاء ، ويطلق عرفًا – الآن - على الغسل ، خاصة ما كان بالماء الحار .
التهنئة لمن يقص شعر رأسه
يقول البعض لمن يقص شعره - أيضًا : نعيمًا ، تهنئة له ؛ وهذه التهنئة لا أصل لها كسابقتها ، غير أنه قد تعارف عليها الناس في بعض البلاد ، فالقول فيها كالقول في سابقتها ، والرد فيها كالرد في سابقتها ؛ ولكن لا يقال : نعيمًا لمن حلق لحيته ؛ لأنه ارتكب مخالفة شرعية .
التهنئة بدخول العام الهجري الجديد
التهنئة بالعام الهجري الجديد ؛ لا أصل لها من سنة النبي
، ولم يفعلها صحابته
، ولم يرد عن السلف فيها شيء ؛ وما اتخذ السلف التقويم الهجري إلا في خلافة عمر
.
وخلاصة فتوى العلماء فيها أن تركها أولى ، ولكن من هنأ بذلك فلا بأس أن يُرد عليه ؛ فإذا قال - مثلًا : كل عام وأنت بخير ، فيرد بقوله : وأنت كذلك ، نسأل الله لنا ولك كلَّ خير ، أو ما أشبه ذلك ؛ أما البداءة بالتهنئة فلا أصل لها ؛ غير أن البعض ذهب إلى أنها مباحة على الأصل الذي قدمناه : ( الأصل في العادات الإباحة ) ؛ ونقل الحافظ المنذري أن الحافظ أبا الحسن المقدسي سئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين ؛ أهو بدعة ، أم لا ؟ فأجاب عن ذلك بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه , والذي أراه أنه مباح ، لا سنة فيه ، ولا بدعة .ا.هـ ( [1] ) .
فدعاء المسلم لأخيه في المناسبات بدعاء مطلق لا يتعبد الشخص بلفظه ، لا بأس به ؛ لاسيما إذا كان المقصود من هذه التهنئة التودُّد ، وإظهار السرور والبشر في وجه المسلم .
وعلى ذلك فمن هنأ غيره بقول : عام جديد مبارك ، بارك الله لك في هذه السنة ؛ شهر مبارك .. ونحو ذلك ، فلا بأس ... والعلم عند الله تعالى .
[1] - انظر ( الحاوي للفتاوي ) للسيوطي : 1 / 82 ؛ وانظر أيضًا ( الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ) للشربيني : 1 / 188 – دار الفكر .
التهنئة بالجمعة
شاع بين الكثيرين إرسال رسائل عبر الهاتف يوم الجمعة ، وختامها بقول : جمعة مباركة ؛ على سبيل التهنئة بيوم الجمعة ؛ ولم يكن هذا معروفًا عند السلف ؛ فلا ينبغي التزامها والمواظبة عليها ؛ وقد سئل ابن باز -
: ما حكم قول : ( جمعة مباركة ) للناس في كل جمعة ، مع العلم أن الجملة
انتشرت بين الشباب ؟ فأجاب : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى
آله وصحبه ، أما بعـد : فالتزام قول المسلم لأخيه المسلم بعد الجمعة ، أو
كل جمعة : ( جمعة مباركة ) ، لا نعلم فيه سنة عن رسول الله
ولا عن صحابته الكرام ، ولم نطلع على أحد من أهل العلم قال بمشروعيته ؛
فعلى هذا يكون بهذا الاعتبار بدعة محدثة ، لا سيما إذا كان ذلك على وجه
التعبد ، واعتقاد السنية ، وقد ثبت عن النبي
أنه قال : " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " ؛ رواه مسلم والبخاري معلقًا ، وفي لفظ لهما : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ " ( [1] ) .
وأما إذا قال المسلم لأخيه أحيانًا من غير اعتقاد لثبوتها ، ولا التزام بها ، ولا مداومة عليها ، ولكن على سبيل الدعاء ، فنرجو أن لا يكون بها بأس ، وتركها أولى ، حتى لا تصير كالسنة الثابتة ( [2] ) .
[1] - رواه البخاري ( 2550 ) ، ومسلم ( 1718 ) عن عائشة
.
[2] - انظر الفتوى رقم : 10514 ، والفتوى رقم : 19781 .
التهنئة الممنوعة
ذكرنا فيما سبق أن التهنئة الممنوعة ، هي التهنئة بالأعياد المبتدعة ، أو بأعياد المشركين ؛ ولتأصيل هذا الأمر يقول شيخ الإسلام -
: العيد يكون اسْمًا لنفس المكان ، ولنفس الزمان ، ولنفس الاجتماع ؛ وهذه
الثلاثة قد أُحدث منها أشياء ، أما الزمان فثلاثة أنواع ؛ ويدخل فيها بعض
بدع أعياد المكان والأفعال ؛ أحدها يوم لم تعظمه الشريعة أصلا ، ولم
يكن له ذكر في وقت السلف ، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه ، مثل أول خميس من
رجب ، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب ، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة
إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة ، ورُوي فيه حديث موضوع باتفاق
العلماء ، مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم ، وفعل هذه الصلاة المسماة عند
الجاهلين بـ ( صلاة الرغائب ) ، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من
الأصحاب وغيرهم .
والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم ، وعن هذه الصلاة المحدثة ، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم ، من صنعة الأطعمة ، وإظهار الزينة .. ونحو ذلك ، حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام ، وحتى لا يكون له مزية أصلا .
وكذلك يوم آخر في وسط رجب ، تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود ، فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا .
النوع الثاني ما جرى فيه حادثة ، كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسِمًا ، ولا كان السلف يعظمونه ؛ كثامن عشري ذي الحجة ، الذي خطب فيه النبي
بغدير خم ، مرجعه من حجة الوداع ؛ فإنه
خطب فيه خطبة ، وصى فيها باتباع كتاب الله ، ووصى فيها بأهل بيته ، كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم
.
فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك ، حتى زعموا أنه عهد إلى علي
بالخلافة بالنص الجلي ، بعد أن فرش له ، وأقعده على فرش عالية ؛ وذكروا
كلامًا باطلًا وعملًا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء ، وزعموا أن
الصحابة تمالئوا على كتمان هذا النص ، وغصبوا الوصي حقَّه ، وفسقوا ،
وكفروا ، إلا نفرًا قليلا ؛ والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ، ثم ما
كان عليها القوم من الأمانة والديانة ، وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق ،
يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا يمتنع كتمانه .
وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة ، وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدًا محدثٌ ، لا أصل له ، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ، ولا من غيرهم ، من اتخذ ذلك عيدًا حتى يحدث فيه أعمالا ؛ إذ الأعياد شريعة من الشرائع ، فيجب فيها الاتباع لا الابتداع ، وللنبي
خطب ، وعهود ، ووقائع في أيام متعددة ، مثل يوم بدر ، وحنين ، والخندق ،
وفتح مكة ، ووقت هجرته ، ودخوله المدينة ، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد
الدين ، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادًا ، وإنما يفعل مثل
هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى
أعيادًا ، أو اليهود ؛ وإنما العيد شريعة ، فما شرعه الله اتبع ، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه .
وكذلك ما يحدثه بعض الناس ، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى
، وإما محبة للنبي
وتعظيمًا له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد ، لا على البدع
من اتخاذ مولد النبي e عيدًا ، مع اختلاف الناس في مولده ؛ فإن هذا لم
يفعله السلف ، مع قيام المقتضى له ، وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيرًا
محضًا ، أو راجحًا ، لكان السلف
أحق به منا ؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله
وتعظيمًا له منا ، وهم على الخير أحرص ، وإنما كمال محبته وتعظيمه في
متابعته ، وطاعته ، واتباع أمره ، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا ، ونشر ما
بُعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ؛ فإن هذه هي طريقة
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ؛ وأكثر
هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع - مع ما لهم فيها من حسن
القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة - تجدونهم فاترين في أمر الرسول
عما أمروا بالنشاط فيه ؛ وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ، أو
يقرأ فيه ولا يتبعه ؛ وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه
قليلا ؛ وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف
الظاهرة التي لم تشرع ، ويصحبها من الرياء والكبر ، والاشتغال عن المشروع ،
ما يفسد حال صاحبها ، كما جاء في الحديث : " مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ ، إِلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ " ( [1] ) .
[1] - اقتضاء الصراط ، ص 292 - 296 ؛ والحديث رواه ابن ماجة ( 741 ) ، وإسناده ضعيف جدًّا .
فتمر بحياة الإنسان مناسبات وأعياد شرعية شرع فيها تهنئة المسلمين بعضهم بعضًا ، ومناسبات وأحوال أخرى شخصية تعارف الناس على التهنئة فيها ببعض الكلمات ؛ وهناك مناسبات مبتدعة اعتاد البعض على التهنئة بها ، وهو غير جائز .
والتهنئة والتبريك من آداب الإسلام وخصاله الجميلة ، وقد وردت الأحاديث والآثار في التهنئة والتبريكات في أحوال ومناسبات سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .
والتهنئة كان أمرًا معروفًا عند الصحابة ، ورخص فيه أهل العلم ، وقد ورد ما يدل على مشروعيه التهنئة في بعض المناسبات ، وتهنئة الصحابة بعضهم بعضًا فيما إذا حصل لهم أمر يَسُرُّ ، كما هنأوا من تاب الله عليهم ... إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه .
فالتَّهْنِئَةُ مَشروعةٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ وفيهَا مُشَارَكَةٌ بِالتَّبْرِيكِ وَالدُّعَاءِ مِنِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ فِيمَا يَسُرُّهُ وَيُفْرحُهُ ؛ مما يدعو إلى التَّوَادِّ ، وَالتَّرَاحُمِ ، وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَهْنِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ نَعِيمٍ في الجنة ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى :
والأصل في التهنئة تجدد نعمة ، أو رفع بلاء ؛ مما يُدخل السرور على النفوس ؛ فهي مما يُفرح المُهنَأ ، ويدل على سجية المهنِّئ ، وقد تدخل في التبشير ، إلا أن البُشارة إنما تكون من أول من يخبر بها ، والتهنئة لا يشترط فيها الأولية .
ولهذا جاء في حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
فهذا الحديث أصل في التهنئة لما يطرأ على المسلم من نعمة ، أو يرفع عنه من بلاء .
وللحافظ السيوطي -
وفي هذه الرسالة أحاول – مستعينًا بالله تعالى – أن أجمع شتات هذا الموضوع المهم من خلال المحاور الآتية :
معنى التهنئة .
ألفاظ تستخدم في التهنئة .
حكم التهنئة .
أنواع التهنئة .
التهنئة المشروعة .
التهنئة الممنوعة .
آداب التهنئة ؛ ثم الخاتمة .
هذا والله الكريم أسأل العون والقبول ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
معنى التهنئة
التَّهْنِئَةُ لُغَةً ضد التَّعْزِيَةِ ، يُقَال : هَنَّأَهُ بِالأَْمْرِ وَالْوِلاَيَةِ ، تَهْنِئَةً وَتَهْنِيئًا ؛ إِذَا قَال لَهُ : لِيَهْنِئَك ، أَوْ لِيَهْنِيكَ ، أَوْ هَنِيئًا ؛ وَالْهَنِيءُ وَالْمَهْنَأُ : مَا أَتَاك بِلاَ مَشَقَّةٍ وَلاَ تَنْغِيصٍ ؛ وَالْهَنِيءُ مِنَ الطَّعَامِ : السَّائِغُ ، وَاسْتَهْنَأْتُ الطَّعَامَ اسْتَمْرَأْتُهُ ؛ وفي التنزيل :فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
[ النساء : 4 ] ؛ ويقال : هنَّيتُه على الشيء الذي يُسَرَّ به تهنيةً ؛ وهنّأتُه الطعامَ تهنئةً ، إذا قلت له : هنيئًا ؛ وهَنُؤَ الطعام : صار هَنِيئًا ؛ وكل أمرٍ أَتى بلا تعب فهو هَنِيءٌ . وفى المثل : ( إنما سميت هانئًا لتهنأ ) ، وهنئت بكذا : فرحتُ به ، وهنَّأته به : فرَّحته ، وهنِّئ به : فرح ( [1] ) .
ولا يختلف معناه في الشرع عن المعنى اللغوي ؛ وقيل : التهنئة : هي المخاطبة بالأمر راجيًا أن يكون مبعث سرور له ( [2] ) .
وقال السبكي -: التهنئة : الدعاء بالهناءة لمن فاز بخير ديني ، أو دنيوي ، لا يضره في دينه ( [3] ) ؛ وقيل : التهنئة : الدعاء لصاحب النعمة بدوامها ، وتسويغها ؛ فأصلها هنأ الطعام .
[1] - انظر لسان العرب باب الهمزة فصل الهاء ، وصحاح الجوهري : 2 / 97 .
[2] - المعجم الوسيط : 2 / 996 .
[3] - ( الدين الخالص ، أو إرشاد الخلق إلى دين الحق ) لمحمود خطاب السبكي : 1/ 343 .
ألفاظ تستخدم في التهنئة
هناك ألفاظ تستخدم للتهنئة بأمورٍ معينة ، كَالتَّبْرِيكِ ، وَالتَّبْشِيرِ ، وَالتَّرْفِئَةِ .
والتبريك من الْبَرَكَةَ ، وَهو الدُّعَاءَ لِلإِْنْسَانِ بِالْبَرَكَةِ ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَادَةُ ( [1] ) .
قال الراغب –
وأما التَّبْشِيرُ : فَمَصْدَرُ بَشَّرَ ، وَالاِسْمُ : الْبِشَارَةُ ، وَالْبُشَارَةُ ( بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ ) ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً : الإِْخْبَارُ بِالْخَيْرِ عند الإطلاق ؛ وهي - أَيْضًا : مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشَّرُ بِالأَْمْرِ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الإِْخْبَارِ بِالشَّرِّ إِذَا قُيِّدَ بِهِ ، كَما في قَوْلِهِ تَعَالَى :
وأما التَّرْفِئَةُ : فمَصْدَرُ رَفَأَ ، يُقَال : رَفَّاهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيًا ، وَرَفَّأَهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيئًا ، أَيْ : دَعَا لَهُ وَقَال : بِالرِّفَاءِ ، أَيْ : بِالاِلْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْل ؛ لأَِنَّ أَصْل الرَّفْءِ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَؤُمُ ، وَمِنْهُ رَفَأَ ، أَيْ : تَزَوَّجَ ( [5] ) . وَعَلَى هَذَا تَكُونُ التَّرْفِئَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّهْنِئَةِ ؛ لأَِنَّ التَّرْفِئَةَ هِيَ التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ خَاصَّةً ، أَمَّا التَّهْنِئَةُ فَتَكُونُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِغَيْرِهِ . وكان أهل الجاهلية يقولون لمن تزوج : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، فنهى النبي
[1] - انظر ( لسان العرب ) باب الكاف فصل الباء ، والمصباح المنير مادة ( ب ر ك ) .
[2] - انظر ( المفردات في غريب القرآن ) مادة ( ب ر ك ) ؛ والحديث رواه مسلم ( 2588 ) عن أبي هريرة t .
[3] - انظر ( لسان العرب ) باب الراء فصل الباء ، والمصباح المنير مادة ( ب ش ر ) .
[4] - انظر ( الفروق اللغوية ) ص 101 ( 399 ) .
[5] - انظر ( لسان العرب ) باب الهمزة فصل الراء ، والمصباح المنير مادة ( ر ف أ ) .
حكم التهنئة
قد جاءت الأدلة على استحباب التهنئة في أحوال ، كالتهنئة بالمناقب العلية ، والتهنئة بالعلم ، والتهنئة بالزواج ... وغير ذلك ؛ واعتاد الناس على بعض التهاني بما يُسَرُّ به المسلم مما يطرأ عليه من الأمور المباحة من تجدد نعمة ، أو دفع مضرة ؛ وهذا من الأمور المباحة ؛ ولها أصل في تهنئة الصحابة لكعب بن مالك وصاحبيه
والأصل في عاداتنا الإباحة ... حتى يجيء صـارف الإباحة
وليس مشروعًا من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور ([1] )
وهناك بعض التهاني قد اعتاد عليها بعض الناس ، ولكنها مما لا يجوز في شرع الله المطهر ، كالتهنئة بأعياد كفرية كعيد الكريسماس وما شابهه ، أو بأعياد مبتدعة كعيد الميلاد ، وعيد الأم ، وعيد الحب ... وما شابه ذلك .
[1] - المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي : 1 / 143.
أنواع التهاني
بعد بيان الحكم المتعلق بالتهنئة يتبين لنا أن التهنئة نوعان :
الأول : تهنئة مشروعة ؛ وهي ما جاء الدليل عليها ، أو ما لها أصل يمكن القياس عليه .
الثاني : تهنئة ممنوعة ؛ وهي ما لا دليل عليها ، وليس لها أصل يمكن القياس عليه .
إذ التهنئة تكون على أحوال :
إمَّا أن تكون بما يُسَرُّ به المسلم ، مما يطرأ عليه من الأمور المباحة ، من تجدد نعمة ، أو دفع مضرة ؛ كالتهنئة بالنكاح ، والتهنئة بالمولود الجديد ، والتهنئة بالثوب الجديد ، والتهنئة بالنجاح في عمل أو دراسة ، أو ما شابه ذلك من المناسبات التي لا ارتباط لها بزمن معين ؛ فهذه من أمور العادات التي لا حرج فيها ، ولعل صاحبها يُؤْجَرُ عليها لإدخاله السرور على أخيه المسلم ؛ فالْمُبَاحُ بِالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ يَكُونُ خَيْرًا ، وَبِالنِّيَّةِ السَّيِّئَةِ يَكُونُ شَرًّا .
وإمَّا أن تكون التهنئة متعلقة بزمن معين ؛ كالأعياد ، والأعوام ، والأشهر ، والأيام ؛ وهذه فيها تفصيل :
أمَّا عيد الفطر وعيد الأضحى ؛ فعيدان شرعيان ، والتهنئة بهما ثابت عن جَمْعٍ من الصحابة .
وأمَّا التهنئة بالعام الهجري الجديد ؛ فلم يكن معروفًا عند السلف ، واختلف فيها ، وسيأتي بيانها .
وأمَّا التهنئة بالأشهر ؛ فكالتهنئة بشهر رمضان ، فهذا له أصل في السنة .
وأمَّا الأيام ؛ فكالتهنئة بيوم ميلاد النبي
وأما ما اخترعه الناس من احتفالات سموها أعيادًا أو أيامًا ، كعيد الميلاد ، وعيد الزواج ، وعيد الحب ، وما شابهه ؛ فهذه كلها وما شابهها أعياد باطلة لا يجوز الاحتفال بها ، ولا التهنئة عليها .
التهاني المشروعة
التَّهْنِئَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِكُل مَا يُسِرُّ وَيُسْعِدُ مِمَّا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتقدم ذكر بعض ذلك ، ونضيف ها هنا بعضها ، كالتَّهْنِئَةِ برمضان ، والتهنئةِ بِالْعِيدِ ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ ، والتهنئة بالعافية من المرض ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالطَّعَامِ ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ ؛ وفي التهنئةِ بالأيام والأعوام والشهور - غير رمضان - كلام لأهل العلم سنذكره إن شاء الله تعالى .
التهنئة بالمناقب الدينية والفضائل العلية
روى أحمد والشيخان عَنْ أَنَسٍ
[1] .
[1] - أحمد : 3 / 122 ، 134 ، 197 ، واللفظ له ، والبخاري ( 3939 ، 4554 ) ، ومسلم ( 1786 ) .
[2] - قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 9 / 230 ) : رواه الطبراني وإسناده حسن .ا.هـ . وحسن إسناده الحافظ المنذري في ( الترغيب والترهيب ) : 2 / 206 ، وكذا الحافظ في ( فتح الباري ) : 7 / 76 .
التهنئة بالتوبة
تقدم حديث كعب بن مالك
التهنئة بالعلم
روى أحمد ومسلم عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ
فمن نال رتبة علمية يُهنأ ، ويقال له : لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ .
التهنئة بالطعام والشراب
اعتاد الناس أن يقول بعضهم لبعض بعد طعام أو شراب : هنيئًا مريئًا ؛ وفي القرآن العظيم أنه يقال لأهل الجنة :
التهنئة بالثوب الجديد
روى أحمد وابن ماجة واللفظ له عَنْ ابْنِ عُمَرَ -
وفي صحيح البخاري عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ -
قال الحافظ –
وفي الحديث أنه يستحب أن يقال لمن لبس ثوبًا جديدًا : أبلِ ( أبلي ) وأَخْلِقْ ( وأخلقي ) .
[1] - أحمد : 2 / 88 ، وابن ماجة ( 3558 ) وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة ، والألباني في صحيح ابن ماجة .
[2] - البخاري ( 2906 ، 3661 ، 5485 ، 5507 ، 5647 ) .
[3] - ابن أبي شيبة ( 29758 ) .
[4] - انظر ( فتح الباري ) : 10 / 280 .
التهنئة بالعافية من المرض
روى أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن مسلم بن يسار قال : كان أحدهم إذا برئ ، قيل : ليهنك الطهر ( [1] ) .
وقال أبو الطيب المتنبي يهنئ سيف الدولة بالعافية من المرض :
وما أخصُّك في برءٍ بتهنئةٍ ... إذا سَلِمْتَ فكلُّ النَّاسِ قد سَلِمُوا
يقول : لا أخصك بهذه التهنئة على برئك من المرض ، بل أهنئ جميع الناس ، فإنهم كانوا مرضى لمرضك ، فإذا سلِمتَ منه سلِم جميع الناس ، فاستووا معك في استحقاق التهنئة .
[1] - حلية الأولياء : 2 / 294 ؛ وهو في ( الزهد ) للإمام أحمد ص 252 ، من زوائد ابنه عبد الله .التهنئة بالقدوم من الحج
روى البيهقي في ( السنن الكبرى ) من طريق الشافعي ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِىِّ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ : حَجَّ آدَمُ
وفي مصنف ابن أبي شيبة أن ابن عمر -
[1] - السنن الكبرى للبيهقي ( 9617 ) - مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 هـ - 1994 م ؛ ورواه الأزرقي في ( أخبار مكة ) عن محمد بن المنكدر .
[2] - ابن أبي شيبة (15814 ) .
التهنئة بالنصر
في سنن أبى داود عن عَائِشَةَ -
وفي المستدرك عن عروة قال : لما قفل رسول الله
وفي ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد : لقي أسيد بن الحضير
[1] - أبو داود ( 4153 ) ، وصححه الألباني ، والنسائي في الكبرى ( 10392 ) .
[2] - جزء من حديث رواه الحاكم ( 5767 ) وقال مرسل صحيح ، ووافقه الذهبي .
[3] - ابن سعد : 3 / 605 . التهنئة بالقدوم من سفر
التَّهْنِئَةُ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ تَكُونُ بِنَحْوِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَك ، أَوِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ الشَّمْل بِكَ ، أو حمدًا لله على سلامتك ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الاِسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ الْمسافر .
وَيُهَنَّأُ الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ كَانَ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى ، بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْعِزِّ وَإِقْرَارِ الْعَيْنِ ، وَتقدم حديث عَائِشَةَ وأسيد بن حضير وعروة
وتقدم - أيضًا - ما يقال لمن قدم من الحج ، ومثله لمن قدم من العمرة . التهنئة بالزواج
الزواج من المناسبات المفرحة ، والتي اعتاد الناس أن يهنأوا فيها العروسين ، وقد ثبت هذا الأدب الرفيع من سنة النبي
والشاهد من الحديث قول أزواج النبي
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : كان رسول الله
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : رَأَى النَّبِيُّ
وفي مسند أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ : تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخَرَجَ عَلَيْنَا ، فَقُلْنَا : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، فَقَالَ : مَهْ ! لَا تَقُولُوا ذَلِكَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ
وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ
فبأي من هذه التهاني هنأ المسلم من تزوج ؛ ولا يقول له : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، لأنها ترفئة أهل الجاهلية - كما تقدم - وهم كانوا يكرهون البنات .
وَالتَّهْنِئَةِ ثَابِتة فِي حَقِّ مَنْ حَضَرَ النِّكَاحَ ، وَتَكُونُ عَقِبَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالدُّخُول ، وَيَطُول وَقْتُهَا بِطُول الزَّمَنِ عُرْفًا ، وَذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ الْعَقْدَ أَوِ الدُّخُول ؛ أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فَتُسْتَحَبُّ لَهُ التَّهْنِئَةُ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ .
[1] - البخاري ( 4515 ) ، وتقرى : تتبعها واحدة ، واحدة .
[2] - أحمد : 2 / 381 ، 451 ، وأبو داود ( 2130 ) ، والترمذي ( 1091 ) ، وقال : حسن صحيح ، والنسائي في اليوم والليلة ( 260 ) ، وابن ماجة ( 1905 ) .
[3] - البُخَارِي في مواطن منها ( 2049 ، 3937 ، 5072 ، 5148 ، 6082 ) ، ومسلم ( 3475 ، 3476 ) .
[4] - انظر ( شرح السنة ) للإمام البغوى : 9 / 134 .
[5] - أحمد : 1 / 201 ؛ 3 / 451 ، والنسائي ( 3371 ) ، وابن ماجة ( 1906 ) ، وصححه الألباني .
[6] - البخاري ( 3681 ، 4861 ) واللفظ له ، ومسلم ( 1422 ) .
التهنئة بالمولودالتهنئة لمن تجددت له نعمة
إظهار البشر والسرور بمقدم المولود مما تعارفت عليه قلوب الوالدين ؛ وإنه لأدب جميل أن يستقبل الوالد مولوده بهذه الحفاوة ؛ ومن الآداب العامة التي لها أصل في مشروعيتها في القرآن الكريم : التهنئة بالمولود والبشارة به ؛ فقد بشرت الملائكة إبراهيمبغلام عليم وهو إسحاق
:
قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
[ الحجر : 53 ] ، وبشر الله تعالى إبراهيم
بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلا م :
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ
[ الصافات : 101 ] ؛ وبشر الله تعالى عبده زكريا بيحيى
:
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
[ مريم : 7 ] ؛ وجاءت الملائكة مريم بالبشرى بعيسى
:
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
[ آل عمران : 45 ] .
ولما كانت البشارة تسر العبد وتفرحه - كما يقول ابن القيم- استحب للمسلم أن يبادر إلى مسرة أخيه وإعلامه بما يفرحه ؛ ولا ينبغي للرجل أن يهنئ بالابن ولا يهنئ بالبنت ، بل يهنئ بهما أو يترك التهنئة ليتخلص من سنة الجاهلية ، فإن كثيرًا منهم كانوا يهنئون بالابن وبوفاة البنت دون ولادتها ( [1] ) .
وثبت في حديث أنس t عند البزار في قصة زواج أم سليم من أبي طلحة ، وما كان من أمرها في قصة ابنه الذي كان مريضًا فمات ، فسجته ، وتهيأت لزوجها ، فلما وضعت بعد ذلك أرسلته مع أنس إلى رسول الله e فحنَّكَه ، ثم قال لأنس : " اذْهَبْ إِلَى أُمِّك ، فَقُلْ : بَارَكَ اللَّهُ لَكِ فِيهِ ، وَجَعَلَهُ بَرًّا تَقِيًّا " ( [2] ) .
وروى الطبراني في ( الدعاء ) أن رجلا ممن كان يجالس الحسن وُلِد له ابن ، فهنأه رجل فقال : ليهنك الفارس ؛ فقال الحسن : وما يدريك أنه فارس ؟ لعله نَجَّار ، لعله خيَّاط ! قال فكيف أقول ؟ قال قل : جعله الله تعالى مباركًا عليك ، وعلى أمة محمد( [3] ) . وعند أبي نعيم في الحلية أن أيوب السختياني كان إذا هنأ رجلا بمولود قال : جعله الله تعالى مباركا عليك ، وعلى أمة محمد
( [4] ) .
وفي مسند ابن الجعد : قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ الْحَسَنِ : يَهْنِيكَ الْفَارِسُ ، فَقَالَ الْحَسَنُ : وَمَا يَهْنِيكَ الْفَارِسُ ؟ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَقَّارًا أَوْ حَمَّارًا ! وَلَكِنْ قُلْ : شَكَرْتَ الْوَاهِبَ ، وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ ، وَبَلَغَ أَشَدَّهُ ، وَرُزِقْتَ بِرَّهُ ( [5] ) .
ويرد المهنَأُ على المهنئِ فيقول : بارك الله لك وبارك عليك ؛ أو : جزاك الله خيرًا ؛ أو : أحسن الله ثوابك وجزاءك .. ونحو هذا ( [6] ) ؛ وتكون التهنئة يوم ميلاد المولود ، أو عند العلم بأن فلانًا رزق مولودًا .
[1] - انظر تحفة المودود ص 45 .
[2] - مسند البزار ( البحر الزخار ) رقم ( 7310 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : 9 / 261 ) : رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ ، غَيْرَ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيِّ ، وَهُوَ ثِقَةٌ .
[3] - الدعاء للطبراني ( 945 ) .
[4] - حلية الأولياء : 3 / 8 ، ورواه الطبراني في الدعاء أيضًا ( 946 ) .
[5] - رواه علي ابن الجعد في مسنده رقم ( 3398 ) ، وابن عدي في الكامل : 7 / 101 .
[6] - انظر ( المجموع شرح المهذب ) للنووي : 8 / 335 .
قال ابن القيم -
فلا بأس أن يُهنأ المسلم بكل ما يسُر ؛ لأن هذا ورد أصله في السنة ، بتهنئة الصحابة بتوبة الله على كعب بن مالك ؛ ولا ريب أن تهنئه المسلم بما تجدد له من نعمة ، أو اندفع عنه من مضرة ؛ يزرع المودة والمحبة بين المسلمين , ويزيل البغضاء والشحناء بينهم .
[1] - انظر ( زاد المعاد ) : 3 / 511 .
التهنئة بقدوم رمضان
قد كان النبييبشر أصحابه عند قدوم رمضان ، فروى أحمد والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ : " قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ " .
قال ابن رجب -: قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بقدوم رمضان .ا.هـ .
فيقول المهنئ - مثلا : شهر مبارك عليك ، أو بارك الله لك في شهرك ، وأعانك فيه على طاعته ، أو ما أشبه ذلك ، ويرد عليه المهنأ بمثل ما هنأه به ، فيقول مثلاً : ولك بمثل هذا ، أو يقول : وهو مبارك عليه .. أو نحو ذلك .
التهنئة بيوم العيدتهاني عرفية
تشرع التهنئة بيوم العيد ، ووقتها للفطر من غروب الشمس من آخر يوم من رمضان ، وفي الأضحى من فجر عرفة كالتكبير ؛ وسُئِلَ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ : هَلْ التَّهْنِئَةُ فِي الْعِيدِ وَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ : ( عِيدُك مُبَارَكٌ ) .. وَمَا أَشْبَهَهُ ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، فَمَا الَّذِي يُقَالُ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : أَمَّا التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ ، وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنْ قَالَ أَحْمَد : أَنَا لَا أَبْتَدِئُ أَحَدًا ، فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ وَاجِبٌ ، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا ، وَلَا هُوَ - أَيْضًا - مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( [1] ) .
وقال الحافظ -: وروينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال : كان أصحاب رسول الله
إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنك ( [2] ) .
وكلُّ ما اعتاده الناس في التهنئة بالعيد فجائز ، ما لم يكن إثمًا ؛ كقول بعضهم لبعض : عيدك مبارك ؛ ونحوه . وقد سئل ابن عثيمين -: ما حكم التهنئة بالعيد ؟ وهل لها صيغة معينة ؟ فأجاب بقوله : التهنئة بالعيد جائزة ، وليس لها تهنئة مخصوصة ، بل ما اعتاده الناس فهو جائز ، ما لم يكن إثمًا .ا.هـ .
وقال في موضع آخر : لكن الذي قد يؤذي ، ولا داعي له ، هو مسألة التقبيل ، فإن بعض الناس إذا هنأ بالعيد يُقَبِّل ، وهذا لا وجه له ، ولا حاجة إليه ، فتكفي المصافحة والتهنئة ( [3] ) .
[1] - مجموع الفتاوى : 24 / 253 ؛ وانظر ( المغني ) لابن قدامة : 2 / 295 ، 296 .
[2] - فتح الباري: 2 / 464، وعزاه السيوطي - أيضًا - في ( الحاوي للفتاوي ) : 1 / 82 ، لابن طاهر في كتاب ( تحفة عيد الفطر) وحسنه .
[3] - انظر ( مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - موقع الشيخ على الإنترنت ) .
تعارف الناس على بعض التهاني عند بعض الأعمال ، ليس لها في السنة أصل ، ولكن إذا عُلِم أن التهنئة من أمور العادات ، وأن الأصل فيها الإباحة ، ما لم يكن فيه مخالفة شرعية ، فهذه التهاني تكون مباحة ؛ فالأصل في التهنئة بكل ما يسر لا بأس بها ، ولها أصل في السنة بتهنئة كعب ابن مالك ، كما تقدم .
فالتهنئة بما يتجدد للمسلم من نعمة أو حال حسنة لا بأس بها ، على أن تكون بكلمات طيبات ، ليس فيها مبالغة ؛ وقد تكون التهنئة بكتابة ، أو برسالة عبر الهاتف ، أو ببرقية ، أو بفاكس ؛ فهذه كلها تدخل في وسائل التهنئة .
فلو نجح إنسان فهنأه صاحبه بأن قال - مثلا : مبارك عليك هذا النجاح ، أو جعله الله لك عونًا على طاعته ، أو جعل الله هذه الدرجة لخدمة دينه .. ونحو ذلك , هذه كلها لا بأس بها ، وتدخل في عموم التهنئة .
فالتهنئة في الأصل مشروعة ، وما ثبت منها يلتزمه المسلم ويواظب عليه ؛ مثل التهنئة بالنكاح وبالثوب الجديد ، فهي ثابتة بألفاظ معينة ؛ وأما إذا لم يثبت فيه شيء ، فالأمر فيه سعة ، ويهنئ الإنسان بما شاء من الألفاظ الطيبات ، ما دام أنه لا يعتقد أنها سنة ، ولا يواظب عليها مواظبته على الأذكار الشرعية .
التهنئة لمن خرج من الحمام
اعتاد بعض الناس أن يقول لمن اغتسل : نعيمًا ، يعني : أدام الله عليك النعيم ؛ قال النووي -
[1] - انظر ( المجموع ) : 4 / 616 – دار الفكر ، ونحوه في ( الأذكار ) ص 431 – دار ابن حزم ؛ والمقصود بالحمام : هو محل فيه ماء حار ، كان الناس يذهبون إليه للاغتسال ، أو الاستشفاء ، ويطلق عرفًا – الآن - على الغسل ، خاصة ما كان بالماء الحار .
التهنئة لمن يقص شعر رأسه
يقول البعض لمن يقص شعره - أيضًا : نعيمًا ، تهنئة له ؛ وهذه التهنئة لا أصل لها كسابقتها ، غير أنه قد تعارف عليها الناس في بعض البلاد ، فالقول فيها كالقول في سابقتها ، والرد فيها كالرد في سابقتها ؛ ولكن لا يقال : نعيمًا لمن حلق لحيته ؛ لأنه ارتكب مخالفة شرعية .
التهنئة بدخول العام الهجري الجديد
التهنئة بالعام الهجري الجديد ؛ لا أصل لها من سنة النبي
وخلاصة فتوى العلماء فيها أن تركها أولى ، ولكن من هنأ بذلك فلا بأس أن يُرد عليه ؛ فإذا قال - مثلًا : كل عام وأنت بخير ، فيرد بقوله : وأنت كذلك ، نسأل الله لنا ولك كلَّ خير ، أو ما أشبه ذلك ؛ أما البداءة بالتهنئة فلا أصل لها ؛ غير أن البعض ذهب إلى أنها مباحة على الأصل الذي قدمناه : ( الأصل في العادات الإباحة ) ؛ ونقل الحافظ المنذري أن الحافظ أبا الحسن المقدسي سئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين ؛ أهو بدعة ، أم لا ؟ فأجاب عن ذلك بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه , والذي أراه أنه مباح ، لا سنة فيه ، ولا بدعة .ا.هـ ( [1] ) .
فدعاء المسلم لأخيه في المناسبات بدعاء مطلق لا يتعبد الشخص بلفظه ، لا بأس به ؛ لاسيما إذا كان المقصود من هذه التهنئة التودُّد ، وإظهار السرور والبشر في وجه المسلم .
وعلى ذلك فمن هنأ غيره بقول : عام جديد مبارك ، بارك الله لك في هذه السنة ؛ شهر مبارك .. ونحو ذلك ، فلا بأس ... والعلم عند الله تعالى .
[1] - انظر ( الحاوي للفتاوي ) للسيوطي : 1 / 82 ؛ وانظر أيضًا ( الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ) للشربيني : 1 / 188 – دار الفكر .
التهنئة بالجمعة
شاع بين الكثيرين إرسال رسائل عبر الهاتف يوم الجمعة ، وختامها بقول : جمعة مباركة ؛ على سبيل التهنئة بيوم الجمعة ؛ ولم يكن هذا معروفًا عند السلف ؛ فلا ينبغي التزامها والمواظبة عليها ؛ وقد سئل ابن باز -
وأما إذا قال المسلم لأخيه أحيانًا من غير اعتقاد لثبوتها ، ولا التزام بها ، ولا مداومة عليها ، ولكن على سبيل الدعاء ، فنرجو أن لا يكون بها بأس ، وتركها أولى ، حتى لا تصير كالسنة الثابتة ( [2] ) .
[1] - رواه البخاري ( 2550 ) ، ومسلم ( 1718 ) عن عائشة
[2] - انظر الفتوى رقم : 10514 ، والفتوى رقم : 19781 .
التهنئة الممنوعة
ذكرنا فيما سبق أن التهنئة الممنوعة ، هي التهنئة بالأعياد المبتدعة ، أو بأعياد المشركين ؛ ولتأصيل هذا الأمر يقول شيخ الإسلام -
والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم ، وعن هذه الصلاة المحدثة ، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم ، من صنعة الأطعمة ، وإظهار الزينة .. ونحو ذلك ، حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام ، وحتى لا يكون له مزية أصلا .
وكذلك يوم آخر في وسط رجب ، تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود ، فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا .
النوع الثاني ما جرى فيه حادثة ، كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسِمًا ، ولا كان السلف يعظمونه ؛ كثامن عشري ذي الحجة ، الذي خطب فيه النبي
فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك ، حتى زعموا أنه عهد إلى علي
وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة ، وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدًا محدثٌ ، لا أصل له ، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ، ولا من غيرهم ، من اتخذ ذلك عيدًا حتى يحدث فيه أعمالا ؛ إذ الأعياد شريعة من الشرائع ، فيجب فيها الاتباع لا الابتداع ، وللنبي
وكذلك ما يحدثه بعض الناس ، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى
[1] - اقتضاء الصراط ، ص 292 - 296 ؛ والحديث رواه ابن ماجة ( 741 ) ، وإسناده ضعيف جدًّا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق